عندما كنت في الصف الأول الابتدائي، أرادت المُعلّمة حينها أن تضيّع بعض الوقت لكي لا تبدأ بإعطاء درس قراءة جديد كون وقت الاستراحة قد اقترب، فقامت بسؤالنا سؤال عام للجميع على حدٍ سواء، ما الذي تريدون أن تصبحوه عندما تكبرون؟
سؤال ساذج طبعًا، لا سيما أنّ المتلقي هم تلاميذ لا يرون في الحياة والدراسة إلّا مجرد وسيلة لتحصيل أكبر قدر ممكن من الحلوى والسكاكر، إلّا أنّه يبقى سؤالًا واردًا لا سيما أنّه كان مِن مُعلّمة ضخمة المنكبين يكاد عرضها يفوق طولها لشدة نظامها الغذائي الصحي الذي تتبعه.
بدأ التلاميذ بالإجابة واحدًا تلوَ الآخر. ماذا تُريد أن تصبح يا علاء؟ علاء يُجيب والمُخاط يتدلى من أنفه كبندول مَرن: طبيب يا آنسة. ماذا تُريد أن تصبح يا أحمد؟ أحمد يرد: أريد أن أكون دكتور يا آنسة. تلتفت الآنسة لجهة الإناث لتقول: ماذا تُريدين أن تكوني عندما تكبري يا غزل؟ وكبقية زملائها غزل ترد: طبيبة يا آنستي!
على الأرجح كان عدد طلاب الصف في تلك الفترة حوالي 35، ومن المؤكد أنّ 34 منهم كانوا يريدون أن يصبحوا أطباءً عندما يكبرون. على الرغم من غرابة سلوكهم الدراسي مِن جهة، وعنف سلوك بعضهم مِن أخرى، فعلاء وأحمد كانا أشبه بعصابات السطو داخل المدرسة لكنهم يريدون أن يصبحوا أطباءً. بالرغم من أنّ ملامحهم تدل على أنّهم سيكونون قتلةً متسلسلين أو مجرمي حرب على أقل تقدير.
المهم، وعندما حان دوري وسألتني المعلّمة ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر، وجدت أنّه من غير المقبول أن أقول طبيب. الجميع كانوا يرددون طبيب طبيب! فأحببت أن أكسر هذه الكلمة الرتيبة وأغير النمط قليلًا، فخطرَ على بالي أن أقول شيئًا آخر مختلف، وهذا ما حدثَ فعلًا، إذ رفعت صوتي وقلت: أريد أن أصبح محامي.
لم أكن أعرف ما معنى كلمة محامي ولا ماذا يفعل المحامون ولا أعرف أي شيء عن القضاء والمحاكم، كل ما في الأمر أنّي أردت أن أغيّر كلمة (دكتور، طبيب) التي قالها الجميع، فلم يخطر ببالي حينها إلّا المحامي.
لكن ولسوء الحظ، وكما عوّدتنا نواميس الحياة على وجود أشخاصٍ طفيليين في كافة مراحل العمر. قفزت إحدى الطالبات المجتهدات التي كانت تعتبر أفضل طالبة في الصف، كما أنّها كانت جميلة أيضًا -لطالما كنت أتمنى أن تقبلني في يوم ما لكنها وللأسف لم تفعل- قفزت لتقول: لكن يا آنسة المحامون يكذبون كثيرًا!
هزّت الآنسة برأسها دون أن تعبأ بها كثيرًا، ولم تعطها قدر كبير من الاهتمام؛ لأنّ الوقت بدأ ينفذ والتلاميذ لم يجيبوا معظمهم عن السؤال، فانتقلت لتلميذ آخر. أمّا أنا فكاد غيظي يصل إلى أنفي مِن شدة الانفعال، تمنيت لو كان معي حبل لأربطها مع قنبلة نووية وأنسفها في عرض المحيط، لكن للأسف لم يكن معي حبل ولم أملك ثمن قنبلة حينها.
تمر الأيام سريعًا وتدور رحاها على عَجَل، وإذا بأولئك الذكور الذين قالوا أنّهم يريدون أن يصبحوا أطباءً، فإذا بهم يرسبون في الابتدائية ولم يكملوا لما بعدها، والذين أكملوا منهم سقطوا في الأساسيّة. أمّا أحمد وعلاء وغيرهم من سفاحي الصفوف فقد انقطعت أخبارهم تمامًا، لربما دخلوا السجن أو ذهبوا لتشكيل عصابة لتجارة المخدرات في عشوائيات أمريكا الجنوبية.
أمّا تلك الجميلة المجتهدة، فقد علمت بطريقة ما أنّها دخلت كلية الآداب بعد أن تعرّضت لانهيار تدريجي في المستوى التعليمي على طول مراحل المدرسة، على الرغم من أنّها كانت من أولئك الذين يبكون إن ضاعت لهم درجة هنا أو درجة هناك، لكن كل شيء تغيّر فدوام الحال من المُحال.
ومن سخرية القدر أنّ ذلك التلميذ الصغير صاحب السنوات الست الذي أراد أن يصبح محامي، تفاجأ فيما بعد عندما وجدَ نفسه وجهًا لوجه أمام كلية طب الأسنان، فأصبح من حينها إنسان يُسبق اسمه بكلمة لعينة عندما يُنادى عليه، ويقال بأنّه (دكتور).
إلى هنا تنتهي القصة ولنبدأ الآن بالكلام الأهم. قطعًا الهدف من سرد ما سبق ليسَ أن أعرفك على المدرسة والطب والمحاماة، وإنّما معرفة أن جميع التلاميذ كانوا مدفوعين برغبة مِن الأهل في أن يكونوا أطباءً، وليسَ برغبة من أنفسهم أبدًا.
لا يوجد طفل بعمر 7 سنوات يعرف شيئًا عن الطب كي يتمنى دخوله، ولا يعرف ما الدراسة وما يرافقها، لكن الأهل في هذه الفترة يعرفون كل شيء ويزرعونه في رأسه على الدوام، وبالتالي تُصبح فكرة الطب بعد عدّة سنوات أحد الأهداف العتيدة التي يسعى إليها التلميذ ويدافع عنها بشراسة ويعتبرها أحد أعظم أحلامه.
أي حلم لعين هذا! حلم يتلخّص في الدراسة! والأجمل من هذا كله أن ترى أحلامًا مُشتركة ضمن عوائل كاملة – ويا للصدفة – تكون في عائلة ما رغبة كل الأطفال في أن يصبحوا أطباءً، ويصبحون كذلك فعلًا! لكن لدي تفسير آخر هنا يبدو أكثر واقعية، وهو أنّه لا يوجد أحلام في مثل هكذا عوائل، الأمر باختصار هو أنّ الأهل منذ ولادة الطفل يدمغوه بدمغة مكتوب عليها اسم الكلية التي سيدرس بها، كما يدمغ الراعي أغنامه كي يعرفها أنّها له.
الأهل هنا ليسوا مهتمين كثيرًا بالأبناء بقدر أهميتهم وحرصهم على المفاخرة بهم. هم ليسوا فخورين بك، بل فخورين بما تفعل! لا يعبئون بما تُريد أن تدرس بقدر ما يعبئون بالشيء الذي إن درسته ستمنحهم منصبًا اجتماعيًا مرموقًا بين الناس. لذلك أنتم لستم إلّا مجرد أدوات مُفاخرة لديهم، ربما كساعة الحائط أو مزهرية فاخرة أو سيارة ثمينة مُلفتة للأنظار.
لم يحبوكم بدون شروط، أحبوكم لأنّكم سلعة، فكان عندها الصراع، ولا سيما الذي يحتد عند دخول الجامعة، فيكون مِن جهة بين جبريّة الأهل العتيدة، وبين الرغبة الشخصية التي ما زالت فتية في بداية طريقها، فيحدث عندها الاشتباك، وإن أردنا الحديث عن حل، فالأمر سيشمل ما سيُكتب تاليًا.
في البداية كان الإذعان
الدراسة الجامعية بين رغبة العقل وجبرية الأهل 1
القاعدة الرئيسية تقول بأنّه لا استقلال اجتماعي بدون استقلال مادي، وبالتالي ليس هناك استقلال دراسي ولا حرية في اختيار الكلية إلّا في حالة وجود استقلال مادي يتبعه استقلال اجتماعي. لكن وفي عمر الـ 18 – سن دخول الجامعة – يكون هذا الأمر شبه مُستحيل، وبالتالي لن يكون هناك إلّا خيار وحيد مُتاح، ألا وهو الإذعان.
قطعًا هناك حالات يكون بها الأهل أكثر تفهمًا للأمر، ولربما يكون لك الحرية في الاختيار كما تريد، لكن هنا نحن نتكلم عن الحالة العامة السائدة وهي الجبرية. لذلك يكون الحل الوحيد هو أن تُطأطأ رأسك لقرارهم وتُذعن، إلّا أنّه ليس أي نوع من الإذعان. بل ذلك الإذعان الذي يفعله الطفل الصغير عندما يتظاهر أنّه يبكي، ومن ثم يُدير ظهره لترتسم تلك الابتسامة الماكرة الخبيثة على وجهه.
طالما أنّ أراجيك عربية، وطالما أنّك تقرأ الآن، وبالتالي نعرف أنّك عربي وهذا ما يقودنا لنتيجة أنّك تدرس في جامعة عربية، وانطلاقًا مما سبق يمكن القول أنّ كليتك إن لم تكن مُتهالكة بنسبة 80% فهي كلية متوسطة.
مفهوم الرغبة الشخصية مفهوم حر طليق من الأفضل ألّا تحدده ضمن أطر نظام التعليم الوهمية القائمة على مبادئ كثيرة أشهرها (التدريس بالإكراه، الحفظ البصم دون فهم، لعق أحذية المعيدين والأساتذة لتحصيل الدرجات)، وغيرها من المبادئ التي لا تقيّمك وفقًا لاجتهادك الدراسي بل وفقًا لعوامل أخرى بلهاء تدل على نفسية مرضيّة لأصحابها.
تخيّل أن ترى ما تهواه قد أصبحَ شيئًا جامدًا، يُعطيه مدرّس حمار يظن نفسه مثقفًا لمجرد كونه يلبس ربطة عنق ويقول أشياء من منهاجه المنقرض، والذي هو أساسًا مُترجم من منهاج أجنبي يعود تاريخه لـ 1970 وقد أثبت العلم الحديث فشله ربما. تخيّل ماذا سيحدث!
مهما بلغَ بك الوله تجاه شيء إلّا أنّك ستكرهه عندما ترى الناس يتعاملون به، ويتداولونه بطريقة حمقاء تسويقية أكثر من كونها تعليمية. كل شيء يُصبح اعتياد يُكره، حتى أصدقاءك نفسهم إن اعتدت عليهم كثيرًا تبدأ بكرههم.
لذلك اذعن وافعل ما يُريدون، وابقِ ما تُريده حرًا طليقًا. الجامعة كفيلة باغتيال أي رغبة تُريدها بسبب نظامها التدريسي الإكراهي. ومَن يعارض هذا الكلام لا ينطلق إلّا من مبدأ الخوف، إذ أنّه لا يحتمل التصديق بأنّ المقياس الذي وصل به لمكانته الحالية هو مقياس ساذج.
تمسّك الجامعات إلى الآن بنظام الدرجات ليسَ لكونه نظام صحيح، بل لأنّ البديل إلى الآن غير موجود. نظام الدرجات أفضل ما تم الوصول إليه لكن هذا لا يعني أنّه نظام جيد وعادل، بل نظام فاشل. واليوم الذي سيأتي حاملًا معه نظام آخر سيحولك لإنسان متعلّم أكثر مما يحولك لجثة فكرية قادم لا محالة.
لكن إلى تلك الفترة فلتذعن ولتحافظ على ما تُريده حرًا بدون قيود. لكن قطعًا ستكون هناك مشكلة أخرى.
عندما تفتقد مَنهجك النظري الدَسِم
الدراسة الجامعية بين رغبة العقل وجبرية الأهل 2
بعد الإذعان ومُمارسة حياة دراسيّة اعتياديّة، تبدأ حينها بإعادة بعث ما تُريد وترغب في محاولة منك لدراسته بشكل موازي تمامًا لما تأخذه في الجامعة. لكن أول عقبة تظهر في تلك اللحظة وتسد عليك طريقك هي عقبة المنهج النظري المفقود.
رغم أنّ الكتب الجامعية النظرية غالبًا ما تكون أشبه بوسيلة تعذيب إجرامية عند الطلاب، إلّا أنّ ذاك الذي يعمل على تطوير رغبته الموازية يكون بحاجة شديدة جدًا لمنهج نظري يعلّمه الأساسيات ويضعه على الطريق، بيدَ أنّه لا يجده للأسف. فيبدأ عندها بالتنقّل مِن موقع لموقع ومِن مرجع لمرجع دون جدوى.
صحيح أنّ الانفجار المعرفي أدى لإفادة حقيقية عند جميع الطلاب في هذا العصر، إلّا أنّه وفي نفس الوقت ساهم بإنشاء جيل مُشتت غير قادر على الانخراط في كل ما يريد. لذلك من المهم جدًا أن تحدد – بدقة شديدة – ما هي الأساسيات الواجب تعلّمها في البداية وما هو مُفيد حقًا، وما هو مجرّد كماليات لن تُغنيك كثيرًا إن تابعت مسيرك بدونها.
وكما قلت، يكون المنهج النظري مفقودًا، لذلك وجب البحث عنه، وفي طريقك لإيجاده سيكون الأمر التالي مُهم جدًا.
اللغة الإنكليزية
الفقرة السابقة غير صحيحة، المنهج النظري موجود ومُتاح إلّا أنه باللغة الإنكليزية وليسَ بالعربية، لذلك سارع خلال فترة دراستك لتطوير هذه اللغة المهمة – لغة المعرفة الحالية – إلى مستويات مُتقدمة، عدا ذلك ستفقد الكثير، هذا إن حصلت عليه من الأصل.
عدم امتلاكك للغة إنكليزية يعني أنّ جميع رغباتك أصبحت كالصفر على اليسار بدون أي قيمة. كل شيء حديث الآن هو بهذه اللغة، كل بحث ودراسة لغتها إنكليزية حتى لو كان باحثيها ألمان مثلًا. اللغة هذه هي لغة العلم الحالية، من المستحيل أن تتقدم خطوات حقيقة بدونها.
صحيح أنّ هذه اللغة ذات منفعة في جميع المجالات، إلّا أنها تكون مُقدسة في مجالات أخرى لشدة الحاجة إليها. لا سيما في النواحي التقنية كالتصميم والبرمجة والمونتاج وكل ما يُشاكل هذه الأفرع حديثة الظهور.
بعد الإذعان ابدأ بالبحث الحثيث عن المراجع المهمة والتأسيسيّة فيما ترغب أن تدرسه بدافع شخصي منك، لكن ذلك سيكون شبه مستحيل بدون إنكليزية، لذلك ابدأ بتطويرها خلال فترة دراستك. فإن لم تمتلك هذه اللغة سينهار كل شيء بعدها.
مِن كل بُستان زهرة
كما للمصباح المتواجد في غرفتك استطاعة كهربية، فإنّ للإنسان أيضًا استطاعة عقليّة يصعب عليه تجاوزها وتعدي حدودها. فالإنسان كالزورق قد يستطيع أن يحمل ما يحمل من حاجيات في داخله، لكن إن زادت الحمولة عن حدها فالغرق سيكون مصيره المحتّم.
عندما تمشي في دراسة جامعية مَفروضة عليك، وفي دراسة شخصيّة مرغوبة منك، ستقطع شوطًا طويلًا على كلا الصعيدين إن جدّ منك العزم وأتقنت المسير، لكن هناك دائمًا فترات راحة مُستقطعة ستكون بانتظارك. فترات ركود، فترات انتكاس، فترات لم تعد تُريد فيها لا الدراسة ولا الرغبة ولا أي شيء آخر. لقد مللت وتعبت من كل شيء على حدٍ سواء.
لذلك مِن البداية تجنّب هذه المعضلة من خلال تعيين محطات راحة مطوّلة لكنها محسوبة وليست عشوائية اعتباطية، بحيث تمارس بها أمور مخالفة تمامًا لكل الذي اعتدت على فعله خلال مشوارك التعليمي السنوي.
مواقع التدوين أصبحت بالعشرات، لمَ لا تبتعد عن دراستك قليلًا ولتبدأ بكتابة بضعة مقالات في مواضيع ترغب أن تكتب عنها. سلاسل الأفلام الوثائقيّة والمسلسلات أصبحت متاحة للجميع وبالمجان، ما رأيك في أن تتابع أي منها. ستفيدك من ناحية التعلّم وقد تفيدك من ناحية اللغة أيضًا.
الكثير من الكتب القيّمة متاحة أيضًا، لمَ لا تعزز معارفك وتوسّع آفاقك من خلال القراءة والبحث. اختر أي عنوان شيّق بالنسبة لك، اقرأ مراجعة سريعة لكتاب ما، وإن راق لك، ابدأ بقراءته والنهل من علومه.
باختصار، حاول أن تقتطف من كل بستان زهرة. من بستان المعرفة اقطف كتاب، من بستان اللغة شاهد مسلسلًا، من بستان المرح احضر فيلم، من بستان التجربة حاول أن تكتب مقال. وتنقّل بين جميع هذه البساتين بدافع المتعة وليسَ الإجبار. فهي فترات راحة، وبالتالي عنصر الجبرية لا وجود له هنا.
ومِن بعدها تعود لملعبك الرئيسي، ملعب الصراع والاشتباك الحقيقي، والذي يجب ألّا تتكيف به أبدًا.
لا تتكيّف ولو منحوك الذهب!
الفكرة الأخيرة والأهم في المقال هي هذه. عندما تُوضع في الجامعة تكون أشبه بأسد وضع في قطيع من الأبقار، المشكلة هنا هو أنّك ترى الجميع يَخور بحكم “بقريّته”. أنتَ في البداية تُكافح لكي تحافظ على صوتك الخاص، تناضل ضد صوت الجموع الذي يدفعك للخوار، تُكافح بقوّة، تضغط على جميع أعصابك لكي تمتنع عن فعل ذلك، لكن في النهاية وبحكم المدة الطويلة والوحدة الشديدة، تستسلم وتبدأ بالخوار معهم رغمًا أنّك لست مثلهم.
تتخلى عن صوتك، وتبدأ بتقليد الصوت السائد الذي يصدره الجميع.
الهدف من هذا التشبيه هو عندما ترى أنّ الجميع يقومون بنفس الشيء لمدة خمس أو ست سنوات، من المستحيل أن تبقى محافظًا على نفسك وسط كل تلك الشخصيات المتشابهة، حتمًا صوتك الفريد وما تتميز به سيضمحل ويختفي وسط خوارهم العالي.
ستضطر لأن تصبح مثلهم، تمشي بنفس طريقهم وتسلك سلوكهم وتتصرف وكأنّك بقرة!
فلتذعن لرغبة والديك، فلتدرس ما يُريدون ولتتعلم معها ما ترغب، نعم فلتفعل هذا، فلتتعلم لغة من أجل فهم المراجع وفك رموز بعض الطلاسم النظرية المعقدة، لكن حتمًا حينها ستمل، لذلك عندها لا بد من فترات راحة. نعم كل هذا ستفعله، وكل هذا ضروري. لكن إياك ثم إياك أن تتخلى عن صوتك. إياك أن تبدأ بالخوار وتقليد أي صوت سائد لمجرّد أن الجميع يفعله، إياك أن تفعل هذا.
لديك رغبة ما اسعَ إليها، حتى لو كانت تلك الرغبة فتاة مثلًا، نعم اسعَ إليها. لربما تخبو قليلًا، لكن إياك أن تنطفئ للأبد. الرغبات الشخصية لا تموت، الرغبات لا تسقط بالتقادم كما في الجرائم، فمرور سنين طويلة عليها لا يُلغيها.
نعم، هي خمدت قليلًا لكنها كالنار التي تخبو تحت الموقد، ما هي إلّا مرحلة مؤقتة إلى أن تأتي نسمة ريح قوية لتعيد تأجيجها من جديد. المهم أن تكون تلك النسمة في الوقت والمكان المناسب، ويبدأ التوهّج يعود أقوى مِن السابق.
صدقني من المستحيل أن يزول أي شيء بالتقادم. على العكس، الزمن يقوم بالصقل لا الإلغاء.
الدراسة الجامعية بين رغبة العقل وجبرية الأهل 3
وصلنا للنهاية، وكما بدأت المقال بقصة سأنهيه بشيء حقيقي مما أعرفه حولي. لدي صديق كان من المُمكن أن يكون كوميديًا ناجحًا، صدقًا لو سخّر مهاراته لميوله الكوميدية لأصبح نجمًا، لكنه اختار الاحتمال الآمن ودخلَ فرع دراسي أُجبرَ عليه، فاعتاد وأصبح يألفه مع الزمن. أمّا دعاباته اللطيفة فقد ذهبت، ولا أكذب إن قلت أنّه قد أصبح ثقيل الظل أيضًا.
نعم، لقد تمكّنوا منه، لقد جعلوه يَخور.
هناك صديق آخر كان من المحتمل أن يكون لاعب كرة قدم محترف، كل شيء يؤهله لذلك، جسم رياضي، توق شديد للعبة، ومتابعة لكل أخبارها. إلّا أنّه اختار الاحتمال الآمن، الاحتمال الذي يميل إليه آباء 90% من سكان الكرة الأرضية كونه يعطيهم شعورًا بالفخر. اختار ذلك الخيار ونسيَ كل شيء عن الكرة ووضعها على جانب حياته، وبدأ بالخوار.
وغيرهم كثر، فهم الحالة العامة والسائدة كما تعلمون، ومَن يحاول أن يسلك سلوك غير ذلك يعتبر شاذ ومخالف وجب السخرية منه كونه لا يسير كما يسيرون ولا يخور كما يخورون.
الإذعان كبداية، لكن كإذعان طفل ماكر ابتسم ابتسامته الخبيثة وبدأ بعدها بالتحضير لمخططه المُحكم التنفيذ، وفي سبيل تحقيق ذلك تعلم الكثير وقطف الكثير إلّا أنّه تعب من الكثير أيضًا، فكان لا بد من أن يستريح كما يستريح الجندي المحارب.
ويبقى الأهم دائمًا هو ألّا يتنازل ذلك الجندي عن معركته، يجب أن يستمر في الكفاح، يجب عليه أن يبقى جنديًا إلى آخر لحظة ولا يخور أبدًا.
الآن حاول أن ترى الصورة الكاملة بعيدًا عن كل التحيّزات، ولتتخلى عن حالة الشخص المسكين الذي جُبر من قبل أهله على شيء ما لا يُطيقه، ومن ثمّ تدهورت حياته كلها، فهذا الأمر غير صحيح.
مدة الجامعة في أقصى حالاتها هي 6 سنوات، لذلك – وبالنسبة لعمرك كله – هي فترة قصيرة، وستتخلص منها في سن مُبكرة، فقد تتخرّج في عمر الـ 22 حتى، فالطريق ما يزال مفتوحًا، لذلك بإمكانك بعدها أن تفعل ما تُريد وبالطريقة التي ترغب. الأهم في الموضوع من جذوره هو ألّا تتكيف! ألّا تتخلى عما تريد.
فقط حافظ على صوتك للحظة الأخيرة، لربما تضطر لأن تواجه بضعة سنين عجاف في حياتك إلّا أنّها مهمة ومفيدة، فالشهادة الجامعية فوائد جمّة، أبرزها عندما تُريد الارتباط والخطوبة، فتكون عندها بمثابة لا حكم عليه عند والد العروس.
المفاجآت لا تزال أمامك، والطريق ما يزال بانتظارك لتكتشفه.
بالمناسبة، عنوان المقال غير صحيح. لا يوجد مُقارنة بين الدراسة وبين رغبة الشخص. تستطيع أن تفعل كل ما تنويه معًا أو تِباعًا. المهم كما قلت هو أنّك تُريد. لكن إن أحببت أن تلعب دور البائس الذي جُبر من أهله، فأنت حر. لكن تأكّد أنّك لن تتقدم قيد أنملة، ولن تكسب بذلك سوى حياة بائسة وأصدقاء كارهين ومشوار متوقف لن تتطوّر فيه.
أنت تُريد، إذن فلتفعل ما تُريد، وتذكّر دائمًا أن تحافظ على صوتك دون أن يتلوّث، فطبيعة البشر تفرض على كل فرد أن يكون له صوت خاص به كالبصمة يستحيل وجودها عند اثنين معًا.
وإياك أن تخور، ثم إياك أن تخور!
التدوينة الدراسة الجامعية: بين رغبة العقل وجبرية الأهل، ما الحل؟ ظهرت أولاً على توجيه بريس|.